«لعنة الطين»
من المفاجآت الجيدة في السباق الرمضاني للدراما، كان مسلسل “لعنة الطين” بتسجيله نتائج غير متوقعة من حيث المتابعة التي تزايدت مع تقدمه نحو الحلقات الأخيرة، وذلك رغم أن الدعاية المسبقة جذبت الأنظار نحو أعمال أخرى. “لعنة الطين” بتسلله الهادئ ضمن الصخب أكد بطلان المقولة الشائعة “العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة”، فالدعاية المحمومة وعجاج المعارك المفتعلة، لم تستر السخف والابتذال في بعض الأعمال ولم تفلح في التعمية عن التكرار والثرثرة في بعضها الآخر، وإنما كان للدعاية أثر سلبي على أعمال لم تتمكن من تجاوز مطب المطمطة المملة، الذي تسقط فيه غالبية المسلسلات المفّصلة قسريا على مقاس الشهر، فتشح أحداثها، ويتباطأ إيقاعها، حتى تغدو حلقات الثلث الأخير أقرب إلى علك الصوف؛ ثغرة عبثا تسد بمشاهد مكررة من حلقات ماضية (فلاش باك)، حتى أنها في أحد الأعمال “الوعظية” تتجاوز الحد المقبول دراميا، وكأن المخرج الذي تقمص دور العالم العلامة في أمور الدنيا والآخرة يجهد في تحفيظ المشاهد مقولات تحفته الفنية. باعتماده تقنية سرد، قفزة إلى الأمام... قفزتان إلى الخلف.
“لعنة الطين” برز عملا مشغولا بعناية تحترم الفن والأدب. قد نختلف حول مدى نجاحه، لكن لا نختلف على أن جهدا فكريا كبيرا بذل فيه، سواء في كتابة النص ورسم الشخصيات أو في الإخراج الذي اشتغل على بيئة العمل من الجوانب كافة: الأفكار، الملابس، اللهجات، الأثاث، أجواء الشارع عموما من الضيعة والمدينة والجامعة إلى شلل التهريب وعالم القاع وليس انتهاء بشبكات الفساد... إلخ خلال فترة زمنية لم تجف بعد تربة أحداثها العصيبة في ذاكرة كل من عايشها.
الثمانينيات مرحلة تكالبت فيها الأخطار الداخلية مع الخارجية، وكونت بيئة قلقة استغلها فاسدون أسسوا لفساد استشرس لاحقا. فكانت مرحلة مفصلية في تاريخنا الاجتماعي المعاصر شهدت صراعات شرسة ترافقت مع بداية خبو التيارات السياسية، وتراجع دور الجامعة في تخريج نخب مثقفة، تتولى مهمة التنوير و دفع دفة التغيير والتقدم.
“لعنة الطين” يذكر بتلك الصراعات والنهايات والتحولات، وبزمن كانت فيه علاقات الشباب في الجامعة أو الضيعة أو المدينة مهمومة بالخلاص العام سواء في محاولة اختبار الأفكار عبر التجربة الحياتية، والتمرد على قيود المجتمع مهما كان الثمن، أو بالاستشهاد في سبيل تحرير الأرض ومقاومة الهيمنة العالمية، وهنا لا بد من أن نتذكر صبايا ريفيات ضعن على أرصفة المدينة وشبابا اختنقت أحلامهم بدخان المقاهي. وأيضا شبابا وشابات التحقوا حينذاك بالمقاومة الوطنية ، منهم من عاد محطما ومنهم من سالت دماؤه وكلهم كانوا يدافعون عن قضية كبرى.
لم يكن حينها العالم ومن ضمنه منطقتنا غارقا بالفساد، كما لم يك المال متسيدا إلى هذا الحد من الصفاقة، التي تشكل تأثيراتها الكارثية على الإنسان مادة دسمة تنهل منها معظم الأعمال الإبداعية، إذ لم يعد الحب أو العلاقات الإنسانية معنية بالخلاص العام، وإنما بخلاص فردي يقود إلى الأمان، الذي لا يعادله شيء سوى تحصيل المال.
لا نقول هذا من باب الحنين إلى الماضي، فذلك ماض نتمنى ألا يعود، لكن كيف السبيل إلى ذلك من دون مراجعة ما جرى في نهاية حقبة تاريخية، وما ترتب عليها من عبور عقد التسعينيات بما شهده من صعود القطب الواحد، وجمود سياسي واقتصادي، سبق عاصفة رقمية وعولمية كونية تقودها الرأسمالية المتوحشة.
الكاتب سامر فهد رضوان والمخرج أحمد إبراهيم أحمد بعملهما الجيد والجاد، فتحا بابا للنقاش حول ما زرعناه في الثمانينيات ليكون حصادنا اليوم مرًّا على هذا النحو من التهتك المجتمعي والانحلال القيمي. ورغم ما قيل عن تدخل رقابة التلفزيون السوري لتعديل النص، ومن ثم حذفها بعض المشاهد قبل العرض، لا بد من الاعتراف أنه وكما يحسب للكاتب والمخرج جرأتهما في انجاز العمل، يحسب أيضا للتلفزيون السوري عرضه. الأمر الذي يؤكد مجددا أن توسيع الهوامش يعطي للمواهب الكامنة فرصة للظهور، وهو ما نحتاج إليه لتستقيم حياتنا الثقافية، لا سيما درامانا التي لم تكن لتحقق سمعتها وانتشارها الواسع عربيا، لولا اتساع الهوامش رغم تذبذب خطه البياني.
“لعنة الطين” من الأعمال التي يحسب لها ايضاً تحريض نخبة من نجومنا على تجاوز أنفسهم، وكأننا نراهم للمرة الأولى، فيما يتماهون مع شخصيات نعرفها حق المعرفة ويؤدونها بعفوية مدهشة، مسجلين مشاهد لا تنسى، منها الاعتداء على الضابط الشاب، وحالة الانكسار التي جسدها مكسيم خليل ببراعة مؤثرة بررت انقلابه، من فتى وقّاد الروح طيب الخلق لطيف المعشر إلى ضابط جلف بقلب من حجر ينضح غلا وحقدا. أمر وضع أهل الضيعة وفي مقدمتهم والدته في مواجهة معضلة العلاقة مع متلازمة السلطة والقسوة، فالأم (سمر سامي) بهتت وتألمت من تحول ابنها المباغت، لكنها لم تحاول جديا ردعه، فهي مثله تتطلع إلى الانتقام. صورة الابن والأم في تلك اللحظات المريبة تقود إلى فكرة الثأر بأبعادها الأوسع، فهي وإن جاءت لتسويغ ظلم وقسوة وعنف السلطة، لكنها لفتت بشكل ما إلى استحواذ هذه الفكرة على علاقتنا مع الماضي، وإمساكها بخناق المستقبل، ليبدو الثأر كأحد المحركات الأساسية لتاريخنا العربي عموما؛ التاريخ النقي الذي تعرض إلى الاخصاء والتجريد من أسباب الإسهام الحضاري، فبات تاريخا للاستبداد والديكتاتورية.
أهمية أعمال إبداعية مثل “لعنة الطين” ليست فقط في الاجتهاد لإعادة تمثيل الوقائع كما جرت قدر الإمكان، بل في الأسئلة الكثيرة التي تثيرها، وأن الماضي لا يمكن تجاوزه ما لم تُعَد قراءته مع فسحة كافية لتقييم موضوعي بعيدا عن مشاعر الخوف وعن المواقف الثأرية.